في مساء يوم الأثنين 23 تشرين الثاني من عام 1908 وصلت بغداد أول سيارة قادمة من مدينة حلب عبر الصحراء الغربية. ولم يكن الحدث بالطبع عادياً، حيث يصفه الدكتور علي الوردي في الجزء الثالث من اللمحات صفحة 240، فيقول: «وفي عام 1908 وردت الى بغداد من حلب أول سيارة، فخرج أهل بغداد للتفرج عليها،
وصار بعضهم ينظر تحتها لكي يكتشفوا الحصان الكامن في بطنها على زعمهم إذ لم يكن من المعقول أن تسير عربة من غير حصان يجرها.» كان قائد تلك الرحلة هو ديفيد فوربس، من عائلة أسكتلندية الأصل، تشتغل في تصدير عرق السوس من تركيا الى أوروبا والولايات المتحدة، ولهم شركة تدعى «ماك أندرو وفوربس» في الولايات المتحدة، وللشركة فروع في أسطنبول والأسكندرونة وكذلك في البصرة كما يذكر لوينغريك في كتابه عن تاريخ العراق المطبوع عام 1953.
وبصحبة ديفيد فوربس كان هناك سائق السيارة ويدعى واط، وكذلك ميكانيكي من مدينة الأسكندرونة حيث أنطلقت السيارة الى حلب في طريقها الى بغداد، وفي مدينة حلب التحق بالمجموعة طباخ وكذلك أحد البدو كدليل للطريق. وكان قد تم وضع خزانات وقود إضافية الى السيارة وكذلك خزان لوضع بعض اللوازم الإضافية من فؤوس وجرافات وحبال. وضع ديفيد فوربس مقالة طويلة في أحدى المجلات الأمريكية يصف فيها تلك الرحلة.
الرحلة من حلب الى بغداد
بعد الوصول الى حلب من الأسكندرونة والأستراحة فيها، أنطلقت الرحلة الى بغداد مع فجر يوم الأثنين 16 تشرين الثاني 1908. صادف ليلة الأنطلاق أمطار غزيرة في حلب ألا أن الطريق كان سالكاً الى حد ما، تتخلله بعض الصعوبات في اجتياز الأراضي الوعرة والوديان المتعددة. إضافة الى معوقات أخرى، فالبرد القارس في الصباح كان يؤخر تشغيل السيارة وكذلك وصول رمال الصحراء عن طريق خزان الوقود الى مصفى الوقود (الفلتر)، حيث تم تنظيف المصفى مرات عديدة منذ الأنطلاق من حلب حتى الوصول الى بغداد. في يوم الأربعاء 18 تشرين الثاني وصلت السيارة الى مدينة ديرالزور، حيث تم التزود بالوقود الذي كان قد أرسل سابقأ ووضع في أحد خانات المدينة. وكان هذه مدعاة لتجمع أعداد كبيرة من الأهالي لرؤية السيارة ما يتطلب تدخل الشرطة لتفريق تلك الجماهير.
وصلت الرحلة الى مدينة (عانه) مروراً بمدينة القائم يوم 19 من الشهر، ولمدينة عانه موقع جغرافي رائع وفريد في سهل وادي الفرات، حيث يخترق النهر جانب المدينة وهناك شارع طويل ضيق لعدة أميال بين حافة الوادي وحيطان البيوت القريبة. كان على السيارة أختراق هذا الزقاق الطويل وبصعوبة للوصول الى خان المدينة، ولم يكن باب الخان يسع لدخول السيارة فتركت السيارة في الشارع حتى صباح اليوم التالي مغلقة الشارع تماماً أمام المرور.
في تلك الفترة كانت الشركات الألمانية تقوم بأعمال مد خط سكة حديد بغداد-برلين عبر الأنضول، وكانت الناس تأمل بتحقيق ذلك الحلم الكبير بالنتقل بين بغداد وأسطنبول بسهولة. وحينما وصل ديفيد فوربس بسيارته الى عانه، يقال أن مأمور التلغراف في المدينة سارع لإبلاغ بغداد «لقد وصل أخيراً الشمندفر (القطار) في طريقه الى بغداد.»
كانت خطة ديفيد فوربس بالعبور الى الضفة الأخرى من نهر الفرات في مدينة عانه، فتم احضار عبارة في اليوم التالي، لكن كانت المشكلة في صعوبة تحميل السيارة الى العبارة، أضافة الى ضحالة مياه الفرات في عانه. أقترح أهالي عانه بالنزول زهاء الساعة عن المدينة حيث تكون المياه أكثر عمقاً وربما هناك أرض اسهل لتحميل السيارة. خلق هذا مشكلة جديدة، فالوصول الى تلك المنطقة يتطلب العبور العديد من الترع والسواقي المخصصة لسقي الأراضي الزراعية. فقضي معظم أوقات نهار ذلك اليوم بردم تلك السواقي حتى الوصول الى المكان المطلوب، ولم يكن من السهل تهيئة الأرض لتحميل السيارة الى العبارة عندما حل الظلام. في صباح اليوم التالي، وكان يوم جمعة، صادف مرور مجموعة من الجنود من بغداد في طريقهم الى ديرالزور، فكانوا عوناً كبيراً في تحميل السيارة الى العبارة وأنزالها في الجهة الأخرى من النهر، وكان الأمر في غاية الصعوبة حيث كادت السيارة ان تنحدر في النهر في أحدى اللحظات، ولم تتم العملية الا بعد منتصف النهار.
الطريق من عانه الى بغداد كان سهلاً في أغلب الأوقات، وكان من الممكن حتى كتابة رسالة وبدون صعوبة، لكن في بعض الأحيان يكون الطريق خطراً للغاية، فبعض المناطق الصخرية أدت الى أتلاف عدد من الأطارات. وحينما لاحت في الأفق مآذن وقباب الصحن الكاظمي قبل المغيب في يوم 23 من الشهر حدث عطل جديد في أحد الاطارات، وكانت جميع الأنابيب المطاطية الداخلية (الجوب) الاحتياطية قد نفدت فكان لابد من ملء الاطار بالحشائش والمزروعات والسير ببطء حتى الوصول الى بغداد. لم تتمكن السيارة العبور الى الرصافة عندما نفذ الوقود بالكامل بالقرب من الجسر، فتركت السيارة مع الميكانيكي في حظائر العربات القريبة في الكرخ. يقول ديفيد فوربس في اليوم التالي رجعت لتفقد السيارة وكانت هناك جمهرة كبيرة من الناس في الشارع الضيق الى مدخل الكراج وكان صاحب الكراج يستوفي أجور لقاء الدخول ومشاهدة السيارة. فقد أشيع في بغداد بأن الشمندفر قد وصل الى بغداد. كانت رغبة فوربس بالعودة بالسيارة الى الشام لكن نفاد الوقود وعدم توفره في بغداد، حال دون ذلك إذ كانت الرحلة قد استهلكت 136 غالوناً (أكثر من 500 لتر) من الوقود، وكذلك إصابة السائق واط بالتيفوئيد من شرب المياه الملوثة في الطريق، ترك ديفيد فوربس السيارة في بغداد ورحل الى البصرة ومنها الى الهند عائداً الى بلاده.
تذكر الكثير من الأدبيات العراقية أن حمدي بابان، كان أول من امتلك سيارة في بغداد، فربما أن السيارة التي تركها فوربس هي ذاتها أصبحت ملكاً لحمدي بابان، خصوصاً أن تلك المصادر لم ترو لنا كيف وصلت السيارة الى بغداد. وكان حمدي بابان من أغنياء بغداد وهو عضو في المجلس البلدي لمدينة بغداد في العهد العثماني
0 التعليقات:
إرسال تعليق